فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب، واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم؛ إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا، وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته؛ وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله، ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في دلائل الإيمان المبثوثة في صفحات الوجود.. فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون}.
وبعد هذا الرد القاسي المهين، وبيان أسبابه، وما في هذا البيان من ترذيل وتبكيت.. يبدأ استجواب جديد: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين}.
وإن الله سبحانه ليعلم. ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض، واستقصار أيامهم فيها. وقد باعوا بها حياة الخلود.. وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها. وإنهم ليائسون ضيقو الصدر، لا يعنيهم حسابها وعدتها: {قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم فاسأل العادين}.
وهي إجابة الضيق واليأس والأسى والقنوط!
والرد: إنكم لم تلبثوا إلا قليلًا بالقياس إلى ما أنتم عليه مقبلون لو كنتم تحسنون التقدير: {قال إن لبثتم إلا قليلًا لو أنكم كنتم تعلمون}.
ثم عودة إلى الترذيل والتعنيف على تكذيبهم بالآخرة، مع التبصير بحكمة البعث المكنونة منذ أول الخلق: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وإنكم إلينا لا ترجعون}.
فحكمة البعث من حكمة الخلق. محسوب حسابها، ومقدر وقوعها، ومدبر غايتها. وما البعث إلا حلقة في سلسلة النشأة، تبلغ بها كمالها، ويتم فيها تمامها. ولا يغفل عن ذلك إلا المحجوبون المطموسون، الذين لا يتدبرون حكمة الله الكبرى؛ وهي متجلية في صفحات الكون، مبثوثة في أطواء الوجود.
وتنتهي سورة الإيمان بتقرير القاعدة الأولى للإيمان.
التوحيد.. وإعلان الخسارة الكبرى لمن يشركون باللّه، في مقابل الفلاح في أول السورة للمؤمنين. وبالتوجه إلى اللّه في طلب الرحمة والغفران وهو أرحم الراحمين: {فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.
هذا التعقيب يجيء بعد مشهد القيامة السابق وبعد ما حوته السورة قبل هذا المشهد من جدل وحجج ودلائل وبينات.. يجيء نتيجة طبيعية منطقية لكل محتويات السورة. وهو يشهد بتنزيه اللّه- سبحانه- عما يقولون ويصفون. ويشهد بأنه الملك الحق، والمسيطر الحق، الذي لا إله إلا هو. صاحب السلطان والسيطرة والاستعلاء: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.
وكل دعوى بألوهية أحد مع اللّه، فهي دعوى ليس معها برهان. لا من الدلائل الكونية، ولا من منطق الفطرة، ولا من حجة العقل. وحساب مدعيها عند ربه، والعاقبة معروفة: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.
سنة نافذة لا تتخلف، كما أن الفلاح للمؤمنين طرف من الناموس الكبير.
وكل ما يراه الناس على الكافرين من نعمة ومتاع، وقوة وسلطان، في بعض الأحيان، فليس فلاحا في ميزان القيم الحقيقة. إنما هو فتنة واستدراج، ينتهي بالوبال في الدنيا. فإن ذهب بعضهم ناجين في الدنيا، فهناك في الآخرة يتم الحساب. والآخرة هي الشوط الأخير في مراحل النشأة، وليست شيئا منفصلا في تقدير اللّه وتدبيره. ومن ثم هي ضرورة لابد منها في النظرة البعيدة.
وآخر آية في سورة المؤمنون هي اتجاه إلى اللّه في طلب الرحمة والغفران: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.
وهنا يلتقي مطلع السورة وختامها في تقرير الفلاح للمؤمنين والخسران للكافرين. وفي تقرير صفة الخشوع في الصلاة في مطلعها والتوجه إلى اللّه بالخشوع في ختامها.. فيتناسق المطلع والختام في ظلال الإيمان. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}.
أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ في أذن مصاب {افحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلًا موقنًا قرأها على جبل لزال».
وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} فقرأناها فغنمنا وسلمنا والله أعلم.
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {لا برهان له} قال: لا بينة له.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {لا برهان له} قال: لا بينة له.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد {لا برهان له} قال: لا حجة.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ إنه لا يفلح الكافرون بكسر الألف في إنه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قرأ أنه لا يفلح الكافرون بنصب الألف في انه.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة {فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} قال: ذاك حساب الكافر عند الله إنه لا يفلح.
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}.
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله علمني دعاء ادعوا به في صلاتي قال: قل «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

قوله: {عَبَثًا}: في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: عابثين. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله أي: لأجل العَبَثِ. والعَبَثُ: اللَّعِبُ وما لا فائدةَ فيه وكلُّ ما ليس له غَرَضٌ صحيحٌ. يقال: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثًا إذا خَلَط عَمَلَه بلَعِبٍ. وأصله من قولِهم: عَبَثْتُ الأَقِطَ أي: خَلَطْتُه. والعَبِيْثُ طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِيُّ لتمر وسَوِيْقٍ وسمن مختلط.
قوله: {وَأَنَّكُمْ} يجوز أَنْ يكونَ معطوفاتً على {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} فيكونُ الحُسْبانُ منسحبًا عليه، وأن يكون معطوفًا على {عبثًا} إذا كان مفعولًا مِنْ أجله. قال الزمخشري: ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفًا على {عبثًا} أي: للعبث ولتَرْكِكِم غيرَ مرجوعين. وقدَّم {إلينا} على {تُرْجَعون} لأجل الفواصلِ.
قوله: {لاَ تُرْجَعُونَ} هو خبر {أنَّكم}. وقرأ الأخوان {تَرْجِعُون} مبنيًا للفاعل. والباقون مبنيًا للمفعول. وقد تقدَّم أنَّ {رَجَعَ} يكون لازمًا ومتعديًا. وقيل: لا يكون إلاَّ متعدِّيًا والمفعولُ محذوفٌ.
{فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)}.
قوله: {الكريم}: قرأه العامَّةُ مجرورًا نعتًا للعرش وُصِفَ بذلك لتَنَزُّل الخيراتِ منه أو لنسبتِه إلى أكرمِ الأكرمين. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب مرفوعًا. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ للعرش أيضًا. ولكنه قُطِع عن إعرابه لأجلِ المدحِ على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيدٌ لتَوافُقِ القراءتين في المعنى. الثاني: أنه نعتٌ ل {رب}.
قوله: {وَمَن يَدْعُ}: شرطٌ. وفي جوابِه وجهان أصحُّهما: أنه قوله: {فإنما حِسابُه} وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وجهان، أحدُهما: أنها صفةٌ ل {إلهًا} وهو صفةٌ لازمةٌ. أي: لا يكون الإِلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى. ومثلُه {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهًا آخرَ مَدْعُوًَّا من دونِ اللهِ له برهان، وأن ثَمَّ طائرًا يطير بغير جناحيه. الثاني: أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه: وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله: {يَطير بجناحيه}، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ. ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضًا بين الشرطِ والجزاءِ كقولك: مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان منه فاللهُ مُثيبُه.
الثاني: من الوجهين الأولين: أنَّ جوابَ الشرطِ قوله: {لا بُرْهانَ له به} كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ، كقوله:
مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها

البيت. وقد تقدَّم تخريجُ كونِ {لا برهانَ له} على الصفةِ. ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ.
قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ. وقرأ الحسنُ وقتادةُ {أنه} بالفتح. وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر {حِسابُه} قال: ومعناه: حسابُه عدمُ الفلاحِ. والأصلُ: حسابُه أنه لا يُفلح هو، فوضع {الكافرون} في موضع الضمير، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك {حِسابُه أنه لا يُفلح} في معنى: حسابهم أنهم لا يُفْلحون انتهى. ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي لأنَّه لا يُفْلح. وقرأ الحسن {لا يَفْلح} بفتح الياءِ واللام، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً. والله أعلم، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في البرهان:
وهو فُعْلان، بزنة الرّجحان.
ومعناه: بيان الحجّة.
وقيل: هو مصدر بَرِهَ يبْره كسمع يسمع إِذا ثاب جسمُه بعد عِلَّة، وابيضَّ جسمه.
ومنه البَرَهْرَهة: للمرأَة البيضاءِ الشَّابّة، أَو التى تُرْعَد رطوبةً، ونعومةً.
والبرهة بالضمّ، والفتح: الزَّمان الطَّويل، أَو مطلق الزَّمان، أَو مدّة منه.
فالبرهان أَوكد الأَدلَّة.
وهو الَّذى يقتضى الصّدق أَبدًا لا محالة.
وذلك أَنَّ الأَدلَّة خمسة أَضرب: دلالة تقتضى الصّدق أَبدا، ودلالة تقتضى الكذب أَبدا، ودلالة إِلى الصّدق أَقرب، ودلالة إِلى الكذب أَقرب، ودلالة اليهما سواء.
وجاءَ البرهان في القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى المعجزة، والولاية: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}.
الثانى: بمعنى الدّليل، والحجّة: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ}.
الثَّالث: بمعنى القرآن، والنبوّة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى كتاب ورسول.
أَنشدني بعض الفضلاءِ:
من استشار صُروفَ الدّهر قام له ** على حقيقة طبع الدّهر برهان

من استنام إِلى الأَشرار نام وفى ** قميصه منهم صِلّ وثُعبان

. اهـ.